استبداد السّرد
في اللغة اليومية يمكن العثور على تعابير ثابتة في كل مكان: مثل المثل أو القول المأثور، الاستعارة أو مجرد العبارة الإنشائية – شذرات من حكايات مألوفة منذ زمن بعيد، واقتباسات لفظية من الماضي. وبالنظر إلى وفرتها، يثير العجب أن مفكّري «فلسفة اللغة العادية» قد انصرفوا إلى الحالات الكلامية المعيَّنة، لكن نادراً ما تناولوا المؤثّرات الأولى والبدئية في الكلام. غير أنّ المرء يدرك ما أخصبَ أن تكون هناك توليفة من «البراغماتية» و«فينومينولوجيا اللغة» و«الفلسفة الوجودية»، إذا نظرنا إلى أعمال ياسبرز، هايدغر، ميرلو-بونتي، فيتغنشتاين، سيرل، ورايل، في سياق واحد. ولكي يُعالج فكر هؤلاء الفلاسفة معالجة تليق به، فلا بد من الانطلاق من تمييز داخلي لمفهوم الأسطورة باعتباره أهمّ فرضية: التمييز بين «الأسطورة اللغوية» (الحكاية) و«الأسطورة الفلسفية» (الرؤية الكونية). وبهذا يتضح أيضاً المقصد الرئيسي من هذا المقال، وهو الكشف عن التشابكات بين الحكاية والأسطورة، وبين اللغة وإدراك العالم، مع التأكيد على العنصر البنيوي في «بيت اللغة» – لا من حيث اللسانيات، بل من حيث «النسبية المعرفية»: إذ إنّ اللغة تُجسّد العالم على أنه واقعنا نحن. وفكرتي هي أنّ الأساطير الفلسفية الأولى والمؤسِّسة لثقافة ما، لا بد أن تُوجَد – على نحو جزئي ومحور – أيضاً في الأسطورة اللغوية للحياة اليومية، لتكوّن بذلك إحدى أهم البُنى الأساسية لوجود الإنسان. وسأبدأ، استلهاماً من أساطير الحياة اليومية عند بارت، بطرح السؤال عن فائدة التمييز بين الأسطورة اللغوية والأسطورة الميتافيزيقية، مع رسم ملامح الوظائف الرئيسة لكل منهما – واصفاً إياهما بـ«اللعبة» تحديداً، لأنّ الانكشاف والإخفاء القائمَين منذ الأزل في النشاط الأسطوري للإنسان يبدوان هنا بجلاء. وستراعي نظرة إلى مفهوم فيتغنشتاين لـ«لعبة اللغة» وكذلك إلى فكرة «الرؤية بوصفها رؤية لشيء ما» ضرورةَ تأويل العالم وبنائه. وكما أود أن أُبيّن، فإن الطابع البنيوي الداخلي للغة هو المسؤول تحديداً عن تلك النزعات إلى الإبعاد عند بلومنبرغ، التي تجعل اللغة ما هي عليه بالنسبة إلينا: إمكانيةً لصياغة عالمنا التجريبي في كلمات، كي نمنح ما هو عديم البنية كلياً نظاماً وترتيباً. إذ إنّ «الوجود لا يفرّق»؛ بل «الوجود يَسِمُ الكينونة».
أين تبدأ الأسطورة؟ من الواضح أنها تبدأ في اللغة. وهذا ما توضحه أصلاً الخلفيّة الاشتقاقية للكلمة اليونانية μῦθος. وقد أدرك بارت إدراكاً صائباً حين قال: «الأسطورة خطاب»؛ إذ إنها، بوصفها حكاية تشكّل دائماً – حتى من حيث البنية النحوية السطحية – وحدة لغوية مركّبة، لا يمكن أن تُنقل إلا بوساطة اللغة: في بدايات التناقل شفوياً، ثم بعد ابتكار الكتابة الأولى، أيضاً بهذا السبيل. ومن التأمل في ما كان قبل المرحلة الشفوية للأسطورة، تبدأ المقاربة التأملية للعلاقة بين الطقس والأسطورة. ويكفي هنا القول إن الأسطورة، شأنها شأن الطقس، تؤدي وظيفةً مُنشِئة للمعنى. وبوصفها «الصيغة الشفوية» للطقس، تتولى الكشف عن البنى التي كانت من قبل ضمنية – البنى التي تصف علاقة الإنسان بالآلهة، ثم علاقة الإنسان بالعالم. ومن ثم فإن الأسطورة الأصلية، كما يجب أنها ظهرت لدى أوائل المجتمعات الأسطورية، لا تنفصل عن مقولة أنطولوجية (ولا تاريخية - ahistorisch)، إذ «إن الأحداث التي ترويها الأسطورة، وإن جرت في أقدم الأزمنة، فإنها مع ذلك تتمتع بـ'بنية دائمة'».
اللغة المنطوقة والأسطورة متلازمتان. وحين ترسخت الكتابة أخيراً كصيغة تواصل مستقلّة، انعكس ذلك أيضاً على الأسطورة؛ إذ أمكن حينئذ «تحويلها إلى أدب»، الأمر الذي أسهم في فصل عنصر حقيقتها التاريخية عن عملية نقلها وعن قوّتها الرمزية. «فالكتابة تميل… إلى تضييق الصور، وإلى خطيّة صارمة في الرموز… ومع زيادة التوفّر، يحدث في الوقت ذاته فقر في وسائل التعبير». وهكذا غدت الأسطورة حكاية، ثم خيالاً، ثم أدباً، حتى صارت اليوم مجالاً مستقلاً من الثقافة، لا يذكّر بأصلها المليء بالمعنى إلا من بعيد. وقد ظهرت مساعٍ لتفسير أعمال أدباء معاصرين أو حداثيين على أنها معالجات لموضوعات أسطورية، أي كعودةٍ للاهتمام بالأسطورة. غير أن الأدب الحديث لا يجعل هذه الرؤية يسيرة، إذ إن المادة الأسطورية فيه قد تكون أحياناً جلية جداً: «كاساندرا» لكرِستا وولف، أو «الفارس الأحمر» لأدولف موسشغ، أو حتى «آل بودنبرُوك» لتوماس مان، كلها نماذج لانعطافة نيو-أسطورية حقيقية، تعيد الأسطورة إلى الواجهة وتقرّب الأدب من مادته الأصلية ومن جذره الأول.
لكن الأمر لا يقف عند تأثير الأسطورة في الأدب (أو عودتها للتأثير فيه)، بل إن الأدب أيضاً يؤثر في اللغة اليومية. والواقع أن اللغة المنطوقة اليومية تتميز بعبارات باتت شبه مستقلة: كالكلمة المأثورة أو القول الشائع – وكم من هذه العبارات ورّثها غوته للناطقين بالألمانية؟ – ومع دخولها في المعجم العام، صارت تشكّل ملامح المشهد اللغوي. وغالباً ما تتغير بذلك دلالتها الأولى، التي قد يصعب أحياناً إعادة بنائها. فبينما يمكن تتبّع العبارة المألوفة بسهولة نسبية، نجد أن البنى أحياناً أعمق وأشد تجذراً، كما أوضح رولان بارت في «أساطير الحياة اليومية».
فالأسطورة، بوصفها «فكرةً في صورة»، تخفي وراءها – حتى في تجلياتها اليومية المعاصرة – مفهوماً يتجاوز كونه «نظاماً لغوياً» ليصير «نظاماً أسطورياً». ويشرح بارت وظيفة الأسطورة على هذا النحو: «إنها تُسمّي وتلمّح، تُفهم وتفرض». وهنا تُفهم الأسطورة على أنها رمز يحمل أوامر معيارية قوية. ولأن المعيارية لا تنشأ إلا في حدود رؤية كونية مستقلة – وهو ما يفسّر تباين الثقافات في تصوراتها الأخلاقية – فإن الأسطورة تضطلع بوظيفة هذه الرؤية عينها: فهي تنظم الواقع، إذ تحضر في كل مكان من خلال اللغة. «المعنى موجود دوماً ليُبقي على حضور الصورة [البنية]؛ والصورة موجودة دوماً لتحفظ المعنى [الواقع] على مسافة». وبكلام بلومنبرغ، لا يمكن أن يُبنى الواقع إلا حيث يُبقى على مسافة (عبر اللغة)، حين يُسمّى ويُحدَّد. وهكذا تصير اللغة والأسطورة معاً لحظة بنيوية دائمة الحضور.
لِمَ الأسطورة؟ لكي يتمكن الإنسان من تفسير العالم. فبينما كانت المجتمعات التي لم تطوّر بعد لغةً معقّدة – والتي يمكن، بالمعنى الدقيق، تسميتها بما قبل-اللفظية – لا تخضع البتة لإلزام الاقتراب من الواقع عبر التعبير اللغوي، فإن جميع الجماعات البشرية، منذ فجر اللغة، قد أُخضِعت لهذا الأمر. ولتتبّع المسار من التصور ما قبل-اللغوي للعالم إلى التصور اللغوي، يلزمنا عرض موجز للطريق من الطقس إلى الأسطورة، وهو الطريق الذي ينتهي، في آخر المطاف، إلى ولادة العقل (Ratio).
فالطقس، كما سبقت الإشارة، هو إمكانية ما قبل-لغوية للتواصل مع القوى المهيمنة في العالم. ففي طقوس القرابين وطقوس العبور على السواء، تهدف الممارسة الطقسية إلى استدعاء القوة المقدّسة – المعطية والآخذة – إلى وعي الجماعة. وكان المقدّس في المجتمعات البدائية ذا هيئة ملموسة دوماً: فالآلهة كانت تُرى في الغابات وفي الحيوانات، وتجلس في النار أو على الأنهار، وتقطن الأرض أو السماء. ولم يكن ممكناً أن يغدو المقدّس مجرد مفهوم مجرّد إلا حين امتلك الإنسان لغةً معقّدة، ومن ثم عقلانيةً مؤسسة عليها. عندئذٍ أمكن أن يصير المقدّس موضوعاً لحكاية أسطورية. لكن، سواء في الفعل الطقسي أو في الأداء الأسطوري، فإن الغاية كانت دائماً إعادة تكرار حدث بعينه، حدثٍ كان، في ثقافة بدائية لا تاريخية، حاضراً في كل حين، ويجب لذلك أن يُستعاد مراراً. وهذا يتوافق مع ما توصّلت إليه الأنثروبولوجيا الثقافية الحديثة: فالأسطورة والطقس وُجِدا ككيانين متلازمين، هما تكرارات – في الفعل وفي الحكاية – لحدث جرى في الزمن الأول، وكانت الحياة الكونية والاجتماعية متوقفة على استمراره.
ومن حيث الأصل، فالأسطورة إذن هي التعبير اللغوي لممارسة كانت تشبع الحاجات الأنطولوجية لجماعة بشرية، وتضمن بقاءها. وهي، مع الطقس، تكشف عن كونها ثابتاً جوهرياً في تاريخ الإنسان، يشهد على انغماسه في بنيات أعلى، وعلى تبعيته لقوى لا تُدرَك – الآلهة.
وهذه الوظيفة التفسيرية للعالم ليست حِكراً على الثقافات البدائية، بل نجدها كذلك في الحضارات الكبرى للعصور القديمة: فتصورات الإغريق، والرومان، والمصريين، والمايا، دليل على أنّ حتى أرقى الحضارات كانت تحتاج إلى الحكاية وإلى التفسير – تفسيرات لا يَعِدُ بها على امتدادها إلا الأسطورة. ويبدو أنّ الأسطورة قد تطوّرت، فانتقلت من «آلهة الطبيعة البسيطة» كما تعرفها الشعوب الأصلية، إلى الأسر الإلهية المعقّدة عند الإغريق والرومان والجرمان. ومع ذلك بقيت عنصراً أساسياً في بقاء الجماعة. حتى ظهرت العقلانية الغربية، التي لم تعد تطيق وجود الأسطورة إلى جانبها؛ فحتى اليوم تتميّز «علاقة الفلسفة بالأسطورة» بنزعة عدائية، أصلها في الفلسفة اليونانية نفسها: كان سقراط من أشرس معارضي الميثولوجيا الإغريقية المبكرة؛ كانت الأساطير تثير خوفه أو امتعاضه، فأنكرها وخضع لانضباط التفكير العلمي. ومنذ ذلك الحين بدأت الطريقة العقلية الراديكالية تشقّ طريقها عبر العصور، وصار اللوغوس خصم الأسطورة الأرقى.
غير أنّ وظيفتيهما، في الجوهر، لا تختلفان كثيراً: فكلاهما يسعى إلى تأمين الحماية من رعب المجهول. غير أن العقل يبدأ بالتساؤل النقدي ليصل، في النهاية، إلى إجابات مؤسسة جيداً وموثوقة قدر الإمكان؛ أما الأسطورة فتمضي على نحو آخر: فهي لا تزعم تقديم «قوى أولى أبدية»، ولا تحمل أجوبة نهائية، بل أقصى ما تقدّمه هو تنوّع من الأسئلة. فغاية الأسطورة ليست الشرح، بل وضع حدّ لأي سؤال تالٍ، وتجسيد محدودية قوى كانت تُخشى أكثر في الماضي. وهنا ينطفئ التناقض إذا أدركنا أن الأسطورة قد أعدّت سلفاً كل الأسئلة الممكنة حول الإنسان؛ فلا يبقى ما يُسأل عنه، ولا ما يُسمّى، ويتحوّل رعب ما لا يُسمّى إلى أمانٍ واهم في متاهات الأسطورة. أما العلم فلا شأن له بما لا يمكن تسميته؛ ومن ثم يرى في حلّ الأسطورة طرحاً غير مُرضٍ، ما لم يعترف بأنه يسعى هو الآخر وراء مبدأ «الأمان الميتافيزيقي».
وللتدليل على أن العقل ذاته جزء من هذا المشروع الكوني الدائم: مشروع «بنية الواقع» أو بالأحرى «بنية إدراكه»، يقترح يامه تمييزاً ثلاثيّاً للأسطورة، يمتد من «الميثي - mythic» إلى «الأسطورة - myth» إلى «الميثولوجيا - mythology». فـ«الميثي» بوصفه تأسيساً للمعنى في عالم المعيشة، يمثّل صيغة المجتمعات ما قبل-الأدبية، بينما الأسطورة هي «التراث المكوَّن والمنظَّم» الذي يظهر في الحضارات الكبرى إبان الثورة النيوليتية. أما القفزة إلى «الميثولوجيا»، حيث تقوم مسافة تجريدية كبرى بين النص الأسطوري ومضمونه، فيراها يامه متحققة في السيادة النهائية للأدب: فهوميروس (على الأقل في الأوديسة)، ثم أوفيد، هما تحويلا الأسطورة إلى أدب منذ البدء، ومعاملتها كـ«عامل ثقافي».
وبذلك لا يظهر العقل إلا كأداة جديدة من أدوات إدراك العالم، الذي ينبغي أن يكدّ على جبهتين: حيث يكون العالم وحيث ينتهي. وكما يقول روبلس: «الميثي ليس سوى الواقع نفسه، هناك حيث يفلت الواقع منّا. لكنه لا يفلت بغيابه، بل… بحضوره المطلق. إن فقدان كل مسافة إزاء ما يحيط بالإنسان تمام الإحاطة، يفلت من كل فهم، ومن كل تسمية، ومن كل إدراك». وهناك، حيث يستحيل الإمساك المفهومي والتحديد القاطع، يفشل العقل حتماً. ولا يبقى إذ ذاك ما يَعد بالخلاص والتخفيف سوى السرد والحكاية، والانفتاح على التيه والانحراف.
ولأنَّ الأسطورة كامنةٌ في اللغة، فلن تستطيع اللغة التخلّص منها. ولأن الإنسان يسكن في اللغة، فلن يتمكّن هو أيضاً من الانفصال عن الأسطورة: «إننا نوجد في صميم اللغة، ولا نستطيع الخروج منها […]». الأسطورة حاضرةٌ على الدوام. وليست هي شيئاً آخر سوى التطوّر المتعاقب الدائم لطريقتنا في إدراك العالم ككلٍّ متكامل.
منذ البدء، كان لا بدّ من إدراك العالم والواقع من أجل البقاء فيهما؛ غير أن الإنسان أضيق من أن يستوعب الواقع في كليته. وما يدركه منه هو أبداً جزءٌ فقط – لقطةٌ لحظةً من قمّة من قمم المعرفة، فيما يظلُّ الوادي المتبدّد الضباب في عمق الواقع محاطاً بعدد لا يُحصى من القمم الأخرى. كلّ رؤية للعالم إنما تقابل قمةً كهذه، يختلف مشهدها عن غيرها كلّ الاختلاف. وما فعله الإنسان إلى الآن، في مجمله، لم يكن سوى السير على ظهر هذه السلسلة الجبلية، متنقّلاً من قمة إلى قمة، مستوطناً كلَّ واحدة منها، مستمتعاً بالمشهد الخلاب الذي يتجدّد أمامه كل مرة – وواهما أنّه المشهد الوحيد الذي يمكن منه النظر إلى الوادي. ذلك أن رؤية الوادي تعني الاقتراب من الواقع، وأمّا تسميته فتعني امتلاك سلطة عليه، لدرء ما يكمن فيه من رهبة. «[فما يشكّل رهبة الواقع يمكن أن يتبدّل. لكن الثابت هو تفوّق الواقع واحتياجنا إلى التغلّب عليه]».
واليقين هو الأمان. والإنسان – ذلك الكائن الناقص – كان منذ البدء حريصاً على الأمان.
فإذا عرفت كيف أتعامل مع العالم، خفَّ عندي الخوف من رهبته (ومن كوني مُلقى في العالم). ومن هنا، فإن الأسطورة، بوصفها نشاطاً أولياً، هي التي تصوغ البنى التي نغرسها بأنفسنا في العالم الواقعي، والتي بداخلها وبواسطتها نزعم في النهاية أننا ندرك واقعنا. وسواء كانت هذه البنية ديانةً طبيعية بدائية، أو رؤيةً توحيدية للعالم، أو تصوراً وحدويًّا كلّيًّا، فالأمر سيّان – حتى ما يسمّى «العقلانية العلمية الإلحادية» لا يظهر، في ضوء ذلك، إلا كضربٍ آخر من الأسطورة، يُمارَس بوسائل مختلفة وإنْ كان بالغ النجاح. فللعقل هو أيضاً حكاياته الخاصة، التي يرويها: حكايات الانفجار العظيم، واستيطان الأرض، وتطوّر الكائنات. وهي – ولا شك – حكايات صادقة، وليس المقصود هنا إنكارها. لكنّها ليست كل الحكايات. إذ إنّ من يطرد الأسطورة إنما يؤسّس أسطورةً أخرى.
ولأننا – نحن البشر المعاصرين من نوع الهومو سابيينس – كائنات لغوية منذ الأزل، فنحن مضطرون إلى أن نرتّب عالم خبرتنا عبر الحكايات. لكنْ لا وجود أبداً لحكايات محايدة. فالأسطورة أو تفسيرها لا معنى لها إلا إذا نُظر إليها في سياق الرؤية الكونية التي تنتمي إليها. وقد أشار بارت إلى ذلك: «إن الخطاب الميثي يُصاغ من مادةٍ سبق أن صيغت في ضوء رسالةٍ معيّنة». فالرمز دائماً مُشكَّلٌ برمز سابق، لأننا – من موقعنا الأولمبي – نصف وادي المجهول بعلامات. وبصفتنا كائنات اللغة – وكائنات الأسطورة – فإننا في رؤيتنا الرمزية للعالم لسنا أحراراً حقًّا؛ لقد اخترنا سلفاً. وعلى مائدة لعب الأسطورة، لا يبقى لنا إلا أن نختار، كل مرة، القمة التي منها سنشارك في لعبة تخمين العالم ونواصلها. والامتناع عن الاختيار ليس خياراً. فضرورة الاختيار جزءٌ من قواعد هذه «الممارسة الميثية». ومع مفهوم الأسطورة بوصفه لعبة، أصل في النهاية إلى فيتغنشتاين.
إن آراء فيتغنشتاين المتأخّر – تلك التي دوّنها في التحقيقات الفلسفية في أربعينيات القرن العشرين – تُبرز على نحو خاص الحاجة إلى تأويل العالم. فبمفاهيمه عن «اللعبة اللغوية»، و«الرؤية كشيء» (Sehen-als)، و«شبه العائلة» (Familienähnlichkeit)، يبتعد عن النبرة التمييزية الحادة أو النزعة الاختزالية المنطقية للغة المثالية، وينفتح على نسبية الإدراك. فالواقع دائماً واقعٌ خاصٌّ بنا نحن، ولتوصيفه نستخدم ألعاباً لغوية عديدة، قد تكون متشابهة – لكنها دائماً تختلف في شيء ما. ومن ثم، سيجري النظر في اثنين من أهم مفاهيم فيتغنشتاين من حيث وظيفتهما التنسيقية أو التلازمية.
على خلاف فيتغنشتاين صاحب الرسالة، فإن اللغة في عمله المتأخر لم تعد قابلة للفصل عن عنصرها الاجتماعي. فإذا كان قد رأى سابقاً أن «الطابع الجوهري للعالم هو الذي يحدّد الشكل المنطقي للغة»، فإنه سرعان ما ابتعد عن هذا الرأي، واعتبر أن «معنى الكلمة أو دلالتها يتغيّر بحسب استخدامها». والاستعمال اللغوي ذو طبيعة اجتماعية دوماً، ولذا فاللغة ذاتها بين-ذاتية، أي إنها وسيط للتواصل بين مستخدمين يتبعان القواعد الاجتماعية واللغوية نفسها. وبما أن اللغة لا يمكن أن تكون سوى أداة للتواصل (وليست مرجعاً منطقياً للواقع الأوحد الممكن، كما لاحظ فيتغنشتاين لا يخلو من سخرية)، فقد كان لابد له من نفي إمكان وجود «لغة خاصة».
ومن خلال مفهوم «اللعبة اللغوية»، يسلّط فيتغنشتاين الضوء على نسبية التواصل: فاللعبة اللغوية في اللغة «أ» تقتضي اتباع القاعدة «أ»، واللعبة اللغوية في اللغة «ب» تقتضي القاعدة «ب». وقد يكون الاستعمال متشابهاً، لكن المعنى يتغيّر في كل حالة خاصة. فالجزئيّ هو الذرّيّ، وهو حاضر بكثرة لا تُحصى، بحيث «إن معنى الكلمة، في كثير من الحالات، يتحدد من خلال تطبيقها في اللغة»، بحسب فيتغنشتاين. ومن ثم، فإن قاعدةً شاملة فوق-قواعدية تحكم جميع الألعاب اللغوية أمرٌ مستبعد. غير أن اللغة تبقى جزءاً أساسياً (وكما رأينا سابقاً: مؤسِّساً في المقام الأول) من «شكل الحياة»، ولهذا يوجد استثناء وحيد: القاعدة التي تقول بوجوب المشاركة في اللعبة. فإذا كان «شكل الحياة» شرطاً لازماً للتواصل ذي المعنى، فإن ممارسة ألعابها اللغوية ضرورة أيضاً. ويمكننا أن نسمي هذا الإلزام بـ«قاعدة اللعبة الميثية»، إذ الأمر فيها أيضاً أن تخضع لما تجده على قمة واقعك: إما أن تتمسّك بنظام لغتك ورؤيتك الكونية، أو أن تبحث عن غيرها. لكن لا ينبغي أبداً محاولة نقل قواعد لعبة لغوية – قمة – إلى قمة أخرى، فهي لا تناسبها ولا تنتمي إليها. القواعد، واللعبة اللغوية، واللغة – جميعها عرضة للتحوّل المستمر، ولا تبقى على حال. وكما يوضح فيتغنشتاين نفسه: «[…] أنماط جديدة من اللغة، وألعاب لغوية جديدة، يمكن أن تنشأ، وأخرى تشيخ وتُنسى». ومعها تنشأ رؤى كونية جديدة. فاللعبة الميثية هي لعبة أشكال الحياة.
يُعبِّر فيتغنشتاين في مفهومه «رؤية شيء على أنه شيء آخر» عن معنى قريب من هذا. فإذا كان جوهر لعبة اللغة هو تغيّر البُنى والقواعد، فإنّ رؤية الشيء بوصفه شيئاً آخر تُلفت النظر إلى تغيّر زاوية الرؤية باستمرار. لكن بما أنّ صور العالم ذهنية مجردة أكثر من أن تُحلَّل (ومَن عساه يرغب أصلاً في ذلك؟)، فإن فيتغنشتاين يشتق مفهومه عن الرؤية من أسلوب ملاحظة شديد التحديد والملموسية: «أُمعن النظر في وجهٍ، وفجأة ألحظ شبَهَه بوجه آخر. أرى أنّه لم يتغيّر، ومع ذلك أراه على نحو مختلف. هذه التجربة أُسميها 'ملاحظة منظور'». ومن الجليّ – وهو ما شدّد عليه فيتغنشتاين – أنّ الشيء المنظور لم يتبدّل البتّة. أو لنستعِد الاستعارة التي صيغت في الفصل السابق عن الواقع بوصفه وادياً: إنّ الواقع، الوادي نفسه، يبقى على حاله دائماً؛ إنما نحن مَن نكتشف فيه باستمرار ملامح جديدة، ولذا فإننا – كرفاق في لعبة جماعية – نحتفظ دوماً بنظرة متحوّلة إليه.
إن «ملاحظة المنظور» هي السبيل الوحيد لاقتناص معرفة جديدة بالعالم، غير أنّ شيئاً من المخزون القديم للمعرفة يظل دائماً قائماً. «إنّ تعبير تغيّر المنظور هو تعبير عن إدراك جديد، متلازماً مع التعبير عن الإدراك الذي لم يتغيّر». إنّ الابتكار الجذري غير ممكن هنا أيضاً؛ إذ بيّن فيتغنشتاين أنّ إدراكنا في مجموعه لا يتبدّل أبداً، بل إنّ أجزاؤه هي التي تتكيّف مع ظرف جديد لم يكن معهوداً من قبل، فتتحوّل تبعاً له. وهذا شبيه بما أورده تيتنس عن قاعدة كوين في الترجمة، بشأن أهم الجوانب في صورة العالم: في مركز شبكة الآراء تقبع مبادئ عامة لا نتخلّى عنها إلا في أقصى الضرورات. وما نحتاجه هو شبكة آراء متماسكة داخلياً، ومتسقة على أطرافها مع معطيات الملاحظة.
وهنا تشير «التماسك الداخلي» إلى المعنى ذاته الذي فصّلته أعلاه: فلا شيء يتيح لنا أن نعدّ أنفسنا كائنين موجودين، إلا وجود بنية مفروضة في كل وقت على عالمنا أو بيئتنا، سواء فرضناها بأنفسنا أم فرضتها ثقافتنا. ومنذ فجر اللغة، كانت الأسطورة – بوصفها معادلاً لمعنى الوجود الإنساني – أمتن البُنى التي نهضت بهذه الوظيفة، لتحمي الإنسان من الانحلال في فضاء «الشامل» الخالي من البنية. وحين نستوعب الواقع بوصفه واقعنا، يغدو العيش مع رُعبه أو دونه (إذا أُقصي بكل قوة، مع بقائه كامناً) أمراً ممكناً. غير أنّ فيتغنشتاين نفسه قد لا يرضى عن هذا التأويل، إذ يرى أنّ «الأساس [لعبة اللغة وزاوية النظر] ليس شيئاً أبدياً ثابتاً»، بل هو نتاج للتاريخ البشري، خاضع دوماً للتغيّر. لكن لعلّ هذه الحقيقة، كما سبقت الإشارة، هي الثابت الذي يؤسّس «الشامل»: أنّ نظرتنا إليه دائمة التغيّر، لأننا نطلّ عليه باستمرار من قمم مختلفة – مكوَّنة محلياً ثقافياً وزمنياً تاريخياً – إلى واديه.
من اللافت أنّ فلسفة اللغة العادية لم تشأ أن تخوض بعمق في مسألة الأسطورة. فمنذ الأزل كانت الأسطورة، والحكاية، والأدب تشارك – إلى جانب طرائق الاستعمال التي تصفها فلسفة اللغة العادية – في تشكيل مشهد اللغة اليومية، التي، كما يبيّن بارت، لا تُستَعمل أبداً على نحو محض، بل دائماً وفق مقصود مخصوص. ولربما جاز القول إنّ بارت كما يرى أنّ كل شيء يمكن أن يصير أسطورة، فإن فيتغنشتاين أيضاً يفسح المجال لفكرة أن كل شيء يمكن أن يتحوّل إلى لعبة لغة جديدة. وهنا تتكشف قرابة جوهرية بين الأسطورة ولعبة اللغة: كلاهما لا يكفّ عن أن يكون. وبحكم التشابه المحتمل مع غيره، تفضي كلّ «لعبة لغة» إلى لعبة أخرى، فيعلّمنا ألا ننسى أشباهه وأقرانه، لأنّ المعنى الكلي لعائلة «لعبة اللغة» لا يبقى إلا في وفرتها وتنوّعها. وبالقياس ذاته، فإن انتقال الأسطورة، حتى إذا تبدّلت صيغته، لا يخدم إلا بقاء الحماية ضد العدمية: إن براغماتية الحكايات الأسطورية تكمن في نقل معرفة تمكّن من الاحتماء من غموض الوجود. «بعبارة أخرى: الأسطورة تنتزع من العالم رُعبه…» إذ تمنحه موضعاً محدداً. وهذه الوظيفة الإبعادية كامنة إلى حد كبير في اللغة ذاتها، لأن الحديث عن شيء ما يتيح التمايز عنه.
إن المسافة الرمزية التي تخلقها لغتنا هي ما يدفعنا إلى مواصلة السير في جبال وادي الواقع. ولا يجرؤ على النزول في المسالك المنحدرة، متحرراً من العلامة والرمز، ليواجه الأثر المباشر، إلا من أفلَت من قبضتها. أما نحن، فنبقى معلّقين في غيمتها، ولا سبيل لنا لمعرفة ما يجري في الجزء المحجوب عنّا إلا بإفادة من آخر. فنحن، في العمق، نريد أن نرى كل شيء، ولا نستطيع إلا أن نرى. إننا محتاجون لأن نُحاط دوماً بصورة مؤطَّرة، ثابتة ومتغيرة في آن، لعالمنا؛ ولغتنا هي أصدق برهان على ذلك.